سورة المائدة - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين.
أحدهما: أنهم المؤمنون من أُمتنا، وهذا قول الجمهور.
والثاني: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن جريج. {والعقود}: العهود، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي، والجماعة. وقال الزجاج: {العقود}: أوكد العهود.
واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال.
أحدها: أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحلّ وحرّم، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: أنها عهود الدين كلها، قاله الحسن.
والثالث: أنها عهود الجاهلية، وهي الحِلْفُ الذي كان بينهم، قاله قتادة.
والرابع: أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإِيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن جريج، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين.
والخامس: أنها عقود الناس بينهم، من بيع، ونكاح، أو عقد الإِنسان على نفسه من نذر، أو يمين، وهذا قول ابن زيد.
قوله تعالى: {أُحلت لكم بهيمة الأنعام} في بهيمة الأنعام ثلاثة أقاويل.
أحدها: أنها أجنّة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أُمهاتها إِذا ذبحت الأُمهات، قاله ابن عمر، وابن عباس.
والثاني: أنها الإِبل، والبقر، والغنم، قاله الحسن، وقتادة، والسدي.
وقال الربيع: هي الأنعام كلها. وقال ابن قتيبة: هي الإِبل، والبقر، والغنم، والوحوش كلها.
والثالث: أنها وحش الأنعام كالظباء، وبقر الوحش، روي عن ابن عباس، وأبي صالح. وقال الفراء: بهيمة الأنعام بقر الوحش، والظباء، والحمر الوحشيّة.
قال الزجاج: وإِنما قيل لها بهيمة، لأنها أبهمت عن أن تميّز، وكل حي لا يميّز فهو بهيمة.
قوله تعالى: {إِلا ما يتلى عليكم} روي عن ابن عباس أنه قال: هي الميتة وسائِر ما في القرآن تحريمه. وقال ابن الأنباري: المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها، وهي قوله: {حرمت عليكم الميتة}.
قوله تعالى: {غير محلي الصيد} قال أبو الحسن الأخفش: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، فانتصب على الحال. وقال غيره: المعنى: أُحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي اصطيادها، وأنتم حرم، قال الزجاج: الحرم: المحرومون، وواحد الحرم: حرام، يقال: رجل حرام، وقومٌ حرمٌ. قال الشاعر:
فقلت لها فيئي إِليك فإنني *** حرامٌ وإِني بعد ذاك لبيبُ
أي: ملبّ. وقوله: {إِن الله يحكم ما يريد} أي: الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد على مَن يريد.


قوله تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إِلام تدعو؟ فقال: «إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله وأني رسول الله»، فقال: إِن لي أُمراء خلفي أرجع إِليهم أشاورهم، ثم خرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم» فمر شريح بسرح لأهل المدينة، فاستاقه، فلما كان عام الحُديبية، خرج شريح إِلى مكة معتمراً، ومعه تجارة، فأراد أهل السّرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السدي: اسمه الحُطَمُ ابن هند البكري. قال: ولما ساق السَّرح جعل يرتجز:
قدْ لَفَّها الليل بسوّاقٍ حُطَم *** ليس براعي إِبل ولا غنم
ولا بجزّارٍ على ظَهْرِ وضم *** باتوا نيَاما وابنُ هندٍ لم ينم
بات يُقاسِيهَا غلامٌ كالزَّلَمْ *** خَدلَّجُ الساقين ممسوحُ القدم
والثاني: أن ناساً من المشركين جاؤوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلّين بعمرة، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم، فنزل قوله: {ولا آمّين البيت الحرام}. قال ابن قتيبة: وشعائِر الله: ما جعله الله علماً لطاعته.
وفي المراد بها هاهنا سبعة أقوال.
أحدها: أنها مناسك الحج، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال الفراء: كانت عامّة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فقال الله تعالى: لا تستحلوا ترك ذلك.
والثاني: أنها ما حرم الله تعالى في حال الإحرام، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: دين الله كله، قاله الحسن.
والرابع: حدود الله، قاله عكرمة، وعطاء.
والخامس: حَرمُ الله، قاله السدي.
والسادس: الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام، قاله أبو عبيدة، والزجاج.
والسابع: أنها أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إِذا أرادوا دخول مكة، ذكره الماوردي، والقاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: {ولا الشهر الحرام} قال ابن عباس: لا تُحِلُّوا القتال فيه.
وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه ذو القَعدة، قاله عكرمة، وقتادة.
والثاني: أن المراد به الأشهر الحرم. قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كلَّ سنة فيقول: ألا إِني قد أحللت كذا، وحرّمت كذا.
والثالث: أنه رجب، ذكره ابن جرير الطبري. والهدي: كل ما أهدي إِلى بيت الله تعالى من شيءٍ. وفي القلائد قولان:
أحدهما: أنها المقلَّدات مِن الهدي، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنها ما كان المشركون يقلدون به إِبلهم وأنفسهم في الجاهلية، ليأمنوا به عدوّهم، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إِلا في الأشهر الحُرُم، فمن لقوة مقلِّداً نفسه، أو بعيره، أو مشعراً بُدُنَهُ أو سائِقاً هدياً لم يُتعرض له.
قال ابن عباس: كانَ مَن أراد أن يسافر في غير الأشهر الحُرُم، قلد بعيره من الشعر والوبر، فيأمَن حيثُ ذهب. وروى مالك بن مِغوَل عن عطاء قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، فيأمنون به إِذا خرجوا من الحرم، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إِذا خرج من بيته يريد الحج تقلّد من السَّمُرِ فلم يَعرِض له أحد، وإِذا رجع تقلَّد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد.
وقال الفراء: كان أهل مكة يُقلّدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يُقلّدون بالوبر والشعر. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال.
أحدها: لا تستحلّوا المقلَّدات من الهدي.
والثاني: لا تستحلوا أصحاب القلائد.
والثالث: أن هذا نهيٌ للمؤمنين أن ينزعوا شيئاً من شجر الحرم، فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم، رواه عبد الملك عن عطاء، وبه قال مطرف، والربيع بن أنس.
قوله تعالى: {ولا آمّين البيت الحرام} الآمّ: القاصد، و{البيت الحرام}: الكعبة، والفضل: الربح في التجارة، والرضوان من الله يطلبونه في حجّهم على زعمهم. ومثله قوله: {وانظر إِلى إِلهك الذي} [طه: 97] وقيل: ابتغاء الفضل عام، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة.
قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} لفظُه لفظُ الأمر، ومعناه الإِباحة نظيره {فاذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10] وهو يدلُ على إِحرامٍ متقدّم.
قوله تعالى: {ولا يجْرمنكم} وروى الوليد عن يعقوب {يجرمنْكم} بسكون النون، وتخفيفها. قال ابن عباس: لا يحملنكم، وقال غيره: لا يدخلنكم في الجُرم، كما تقول: آثمتُه، أي: أدخلته في الإثم. وقال ابن قتيبة: لا يكسبنكم يقال: فلان جارمُ أهله، أي: كاسُبهم، وكذلك جريمتهم. وقال الهُذلي: ووصف عقاباً:
جريمةَ ناهضٍ في رأس نِيْقٍ *** تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَليبا
والناهض: فرخها، يقول: هي تكسب له، وتأتيه بقوته. والشنآن: البغض، يقال: شنئته أشنؤه: إِذا أبغضته. وقال ابن الأنباري: الشنآن: البغض، والشنآن بتسكين النون: البغيض. واختلف القراء في نون الشنآن، فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بتحريكها، وأسكنها ابن عامر، وروى حفص عن عاصم تحريكها، وأبو بكر عنه تسكينها، وكذلك اختُلف عن نافع.
قال أبو علي: الشَّنآن، قد جاء وصفاً، وقد جاء اسماً، فمن حرّك، فلأنه مصدر، والمصدر يكثر على فَعَلان، نحو النَّزَوان، ومن سكَّن، قال: هو مصدر، وقد جاء المصدر على فَعْلان، تقول: لويته دينَه لَيَّانًا، فالمعنى في القراءتين واحد، وإِن اختلف اللفظان. واختلفوا في قوله: {أن صدوكم} فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح جعل الصّد ماضياً، فيكون المعنى من أجل أن صدوكم، ومن كسرها، جعلها للشرط، فيكون الصّد مترقَّباً. قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضياً مع الكسر، كقوله:
{إِن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل} [يوسف: 77] وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت، وأنشد أبو علي الفارسي:
إِذا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْني لئيمةٌ *** وَلَمْ تَجِدي من أن تُقِرِّي بها بُدّا
فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء، والجزاء إِنما يكون بالمستقبل، فيكون المعنى: إِن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة. قال ابن جرير: وقراءة مَن فتح الألف أبيَن، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية، وقد كان الصدّ تقدّم.
فعلى هذا في معنى الكلام قولان:
أحدهما: ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه، فتقاتلوهم، وتأخذوا أموالهم إِذا دخلتموه، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: لا يحملنكم بغض أهل مكة، وصدّهم إِياكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين، على ما سبق في نزول الآية.
قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} قال الفراء: لِيُعِن بعضكم بعضاً. قال ابن عباس: البرّ ما أُمرت به، و{التقوى}: ترك ما نُهيت عنه. فأمّا{الإثم}: فالمعاصي. والعدوان: التّعدّي في حدود الله، قاله عطاء.
فصل:
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين.
أحدهما: أنها محكمة، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر، ولا الهدي قبل أوان ذبحه. واختلفوا في {القلائد} فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلِّد من شجر الحرم، فقيل لهم: لا تستحلُّوا أخذ القلائد من الحرم، ولا تصدوا القاصدين إِلى البيت.
والثاني: أنها منسوخة، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال.
أحدها: أن جميعها منسوخ، وهو قول الشعبي.
والثاني: أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلِّدون هداياهم، ويظهرون شعائِر الحج من الاحرام والتلبية، فنُهي المسلمون بهذه الآية عن التعرّض لهم، ثم نسخ ذلك بقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] وهذا قول الأكثرين.
والثالث: أن الذي نُسخ قوله: {ولا آمّين البيت الحرام} نسخه قوله: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 38] روي عن ابن عباس، وقتادة.
والرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشهر الحرام، وآمّون البيت الحرام: إِذا كانوا مشركين. وهدي المشركين: إِذا لم يكن لهم من المسلمين أمان، قاله أبو سليمان الدمشقي.


قوله تعالى: {حرِّمت عليكم الميتة} مفسّرٌ في البقرة، فأما {المنخنقة} فقال ابن عباس: هي التي تختنق فتموت، وقال الحسن، وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره. قلت: والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك. قال ابن قتيبة: و{الموقوذة}: التي تُضرب حتى توقَذ، أي: تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة، ومنه يقال: فلان وقيذ، وقد وقذته العبادة.
و{المتردّية}: الواقعة من جبل أو حائط، أو في بئر، يقال: تردى: إِذا سقط.
و{النطيحة}: التي تنطحها شاة أخرى، أو بقرة، فعيلة في معنى مفعولة {وما أكل السبع} وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وابن أبي ليلى: السَّبع: بسكون الباء. والمراد: ما افترسه فأكل بعضه {إِلا ما ذكيتم} أي: إِلا ما لحقتم من هذا كله، وبه حياة، فذبحتموه.
فأما الاستثناء، ففيه قولان:
أحدهما: أنه يرجع إِلى المذكور من عند قوله: {والمنخنقة}.
والثاني: أنه يرجع إِلى ما أكل السبع خاصة، والعلماء على الأول.
فصل: في الذكاة.
قال الزجاج: أصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، فمنه الذكاء في السن. وهو تمام السِّن. قال الخليل: الذكاء: أن تأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة، ومنه الذكاء في الفهم، وهو أن يكون فهماً تاماً، سريع القبول. وذكّيت النار، أي: أتممت إِشعالها. وقد روي عن عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: ما أدركت ذكاته بأن توجد له عينٌ تَطْرِف، أو ذنب يتحرك، فأكله حلالٌ. قال القاضي أبو يعلى: ومذهب أصحابنا أنه إِن كان يعيش مع ما به، حل بالذبح، فان كان لا يعيش مع ما به، نظرت، فان لم تكن حياته مستقرّة، وإِنما حركته حركة المذبوح، مثل أن شُقَّ جوفه، وأُبينت حشوته، فانفصلت عنه، لم يحل أكله، وإِن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين، مثل أن يشق جوفه، ولم تقطع الأمعاء، حل أكله. ومن الناس من يقول: إِذا كانت فيه حياة في الجملة أُبيح بالذكاة، والصحيح ما ذكرنا، لأنه إِذا لم تكن فيه حياة مستقرة، فهو في حكم الميت. ألا ترى أن رجلاً لو قطع حُشْوَةَ آدمي، ثم ضرب عنقه آخر، فالأول هو القاتل، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول.
وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان.
إِحداهما: أنه الحلقوم والمريء، والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء، فإن نقص من ذلك شيئاً، لم يؤكل، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله.
والثانية: يجزئ قطع الحلقوم والمريء، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال مالك: يجزئ قطع الأوداج، وإِن لم يقطع الحلقوم. وقال الزجاج: الحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفَس، وفيه شعب تتشعب منه في الرئة.
والمريء: مجرى الطعام، والودجان: عرقان يقطعهما الذابح.
فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة، فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر سواء كانا منزوعين، أو غير منزوعين. وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين. فأما البعير إِذا توحش، أو تردى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره. وقال مالك: ذكاته ذكاة المقدور عليه. فإن رمى صيداً، فأبان بعضه، وفيه حياة مستقرة، فذكّاه، أو تركه حتى مات جاز أكله، وفي أكل ما بان منه روايتان.
قوله تعالى: {وما ذبح على النصب} في النصب قولان:
أحدهما: أنها أصنام تنصب، فتُعبد من دون الله، قاله ابن عباس، والفراء، والزجاج، فعلى هذا القول يكون المعنى، وما ذبح على اسم النُّصب، وقيل لأجلها، فتكون {على} بمعنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام، كقوله: {فسلام لك} [الواقعة: 91] أي: عليك، وقوله: {وإن أسأتم فلها} [الاسراء: 7].
والثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها، ويشرِّحون اللحم عليها، ويعظمونها، وهو قول ابن جريج. وقرأ الحسن، وخارجة عن أبي عمرو: على النَّصْب، بفتح النون، وسكون الصاد، قال ابن قتيبة، يقال: نُصُبٌ ونُصْبُ ونَصْبٌ، وجمعه أنصاب.
قوله تعالى: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال ابن جرير: أي: وأن تطلبوا عِلم ما قُسم لكم، أو لم يقسم بالأزلام، وهو استفعلت من القسم قسم الرزق والحاجات. قال ابن قتيبة: الأزلام: القداح، واحدها: زَلَم وزُلَم. والاستقسام بها: أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمرٍ أو نهي، فكانوا إِذا أرادوا أن يقتسموا شيئاً بينهم، فأحبُّوا أن يعرفوا قسم كل امرئٍ تعرفوا ذلك منها، فأخِذ الاستقسام من القِسم وهو النصيب. قال سعيد بن جبير: الأَزلام: حصى بيض، كانوا إِذا أرادوا غدواً، أو رواحاً، كتبوا في قدحين، في أحدهما: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ربي، ثم يضربون بهما، فأيهما خرج، عملوا به. وقال مجاهد: الأزلام سهام العرب، وكعاب فارس التي يتقامرون بها. وقال السدي: كانت الأزلام تكون عند الكهنة. وقال مقاتل: في بيت الأصنام. وقال قوم: كانت عند سدنة الكعبة. قال الزجاج: ولا فرق بين ذلك، وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو اخرج من أجل نجم كذا.
قوله تعالى: {ذلكم فسقٌ} في المشار إِليه بذلكم قولان:
أحدهما: أنه جميع ما ذكر في الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن جبير.
والثاني: أنه الاستقسام بالأزلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والفسق: الخروج عن طاعة الله إِلى معصيته.
قوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} في هذا اليوم ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن السائب: نزلت ذلك اليوم.
والثاني: أنه يوم عرفة، قاله مجاهد، وابن زيد.
والثالث: أنه لم يرد يوماً بعينه، وإِنما المعنى: الآن يئسوا كما تقول: أنا اليوم قد كبرت، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي، فيقولون: قد كنت في غفلة، فاليوم استيقظت، يريدون: فالآن، ويقولون: كان فلان يزورنا، وهو اليوم يجفونا، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر:
فيومٌ علينا ويوم لنا *** ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر
أراد: فزمان لنا، وزمان علينا، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إِليه غيره.
وفي معنى يأسهم قولان:
أحدهما: أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: يئسوا من بطلان الإِسلام، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وإِنما يئسوا من إِبطال دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إِليهم، وأمنهم إِلى المسلمين، فعلموا أنهم لا يقدرون على إِبطال دينهم، ولا على استئصالهم، وإِنما قاتلوهم بعد ذلك ظناً منهم أن كفرهم يبقى.
قوله تعالى: {فلا تخشوهم} قال ابن جريج: لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، وقال ابن السائب: لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم، واخشوني في مخالفة أمري.
قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} روى البخاري، ومسلم في الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إِلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إِنكم تقرؤون آيةً من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية هي؟ قال: قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فقال عمر: إِني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أحداً وثمانين يوماً.
فأما قوله: {اليوم} ففيه قولان:
أحدهما: أنه يوم عرفة، وهو قول الجمهور.
والثاني: أنه ليس بيوم معيّن، رواه عطيّة عن ابن عباس، وقد ذكرنا هذا آنفاً. وفي معنى إِكمال الدين خمسة أقوال.
أحدها: أنه إِكمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم، قاله ابن عباس، والسُدّي، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم شرائِع دينكم.
والثاني: أنه بنفي المشركين عن البيت، فلم يحج معهم مشرك عامئذ، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. وقال الشعبي: كمال الدين هاهنا: عزه وظهوره، وذلّ الشّرك ودروسه، لا تكامل الفرائِض والسنن، لأنّها لن تزل تنزل إِلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم نصر دينكم.
والثالث: أنه رفع النسخ عنه. وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قُبض، روي عن ابن جبير أيضاً.
والرابع: أنه زوال الخوف من العدو، والظهور عليهم، قاله الزجاج.
والخامس: أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها، كما نسخ بها ما تقدمها. وفي إِتمام النعمة ثلاثة أقوال.
أحدها: منع المشركين من الحج معهم، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة.
والثاني: الهداية إِلى الإيمان، قاله ابن زيد.
والثالث: الإِظهار على العدو، قاله السدي.
قوله تعالى: {فمن اضطر} أي: دعته الضرورة إِلى أكل ما حرُم عليه. {في مخمصة} أي: مجاعة، والخمص: الجوع. قال الشاعر يذم رجلاً:
يَرَى الخمْصَ تعذيباً وإِن يلق شَبْعَةً *** يَبِتْ قلبُه من قِلَّة الهمِّ مُبْهما
وهذا الكلامُ يرجع إِلى المحرمات المتقدّمة من الميتة والدم، وما ذكر معهما.
قوله تعالى: {غير متجانف لإِثم} قال ابن قتيبة: غير مائل إلى ذلك، والجنف: الميل. وقال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: غير متعمد لإِثم.
وفي معنى تجانف الإِثم قولان:
أحدهما: أن يتناول منه بعد زوال الضرورة، روي عن ابن عباس في آخرين.
والثاني: أن يتعرّض لمعصية في مقصده، قاله قتادة. وقال مجاهد: من بغى وخرج في معصية، حرم عليه أكله. قال القاضي أبو يعلى: وهذا أصح من القول الأول، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار، وذلك إِنما يصح في سفرالعاصي، ولا يصح حمله على تناول الزِّيادة على سد الرّمق، لأن الاضطرار قد زال. قال أبو سليمان: ومعنى الآية: فمن اضطر فأكله غير متجانف لإِثم، فإن الله غفور، أي: متجاوز عنه، رحيم إِذْ أحل ذلك للمضطر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8